الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
يَقُولُونَ: أنه لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ بِعِلْمٍ ذَاتِيٍّ اسْتِقْلَالِيٍّ؛ وَنَقُولُ: إِذَا أَجَزْنَا لِأَنْفُسِنَا أَنْ نُقَيِّدَ كُلَّ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ جَمِيعِ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ بِالتَّأْوِيلِ، فَيَجِبُ أَنْ نَقِفَ عِنْدَ حُدُودِ النُّصُوصِ فِي أَمْرِ الْغَيْبِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ، وَلَا مَجَالَ فِيهِ لِعُقُولِ النَّاسِ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَحْثِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَغَيْرِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى.وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا كَلَامٌ جَدِيدٌ مُسْتَقِلٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِوَقْعَةِ أُحُدٍ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، فَقَدْ جَاءَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ آيَاتٌ فِي شُئُونِ الْكَافِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَمَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعُقُوبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تُذْكَرُ لِلْمُنَاسَبَةِ، ثُمَّ يَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَقْعَةِ وَقَدِ انْتَهَى ذَلِكَ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَأَمَّا هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَهِيَ فِي ضُرُوبٍ مِنَ الْإِرْشَادِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أن يكون بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا تَنَاسُبٌ، بَلِ التَّنَاسُبُ فِيهَا ظَاهِرٌ. وَأَقُولُ: إِنَّ الْوَجْهَ فِي وَصْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْكَلَامَ قَبْلَهَا فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ الْكَلَامُ قَبْلَهَا فِي حَالِ الْيَهُودِ، وَقَبْلَهَا فِي حَالِ النَّصَارَى مَعَ الإسلام بِمُنَاسَبَةِ الْكَلَامِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي التَّوْحِيدِ، وَالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، فَلَمَّا انْتَهَى مَا أَرَادَ اللهُ بَيَانَهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ- وَمِنْهُ أنه أَيَّدَ دِينَهُ وَأَعَزَّ حِزْبَهُ حَتَّى أنه جَعَلَ خَطَأَهُمْ فِي الْحَرْبِ مُفِيدًا لَهُمْ- عَادَ إِلَى بَيَانِ حَالِ الْيَهُودِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ:وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَالَغَ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ النَّفْسِ فِي الْجِهَادِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ شَرَعَ هَاهُنَا فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ، وَبَيَّنَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِمَنْ يَبْخَلُ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ. اهـ.وَحَسْبُكَ مَا عَلِمْتَ مِنْ وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَاتِ كُلِّهَا بِمَا قَبْلَهَا.قَرَأَ حَمْزَةُ: {تَحْسَبَنَّ} بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ حَاسِبٍ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيرٌ، أَيْ لَا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: {يَحْسَبَنَّ} بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِكَذَا بُخْلَهُمْ خَيْرًا لَهُمْ. أَوْ لَا يَحْسَبَنَّ أَحَدٌ، أَوْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِكَذَا خَيْرًا لَهُمْ. وَإِعَادَةُ الضَّمِيرِ عَلَى مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ لِدَلَالَةِ فِعْلِهِ، أَوْ وَصَفٍ مِنْهُ، عَلَيْهِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِنْهُ قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [5: 8] أَيِ الْعَدْلُ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَيْ إِذَا نَهَى عَنِ السَّفَهِ جَرَى إِلَيْهِ، وَكَانَ النَّهْيُ إِغْرَاءً لَهُ بِهِ. وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: قَالُوا: وَالْآخِذُونَ بِهِ، أَيْ بِالْمُلْكِ.أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتَهُ، فَالْبُخْلُ عَلَى هَذَا هُوَ الْبُخْلُ بِالْعِلْمِ، وَبَيَانِ الْحَقِّ. وَرُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ: الْمَالُ، وَأَنَّ الْبُخْلَ بِهِ هُوَ الْبُخْلُ بِالصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ، وَعَدَمُ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، فَكَثِيرًا مَا يُتْرَكُ التَّصْرِيحُ بِالْقَوْلِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَالْقَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَاللَّبْسُ مَأْمُونٌ، فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنَّ الْوَعِيدَ هُوَ عَلَى الْبُخْلِ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللهَ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ، وَالزِّينَةَ فِي نَصِّ كِتَابِهِ، وَالْعَقْلُ يَجْزِمُ أيضا بِأَنَّ اللهَ لَا يُكَلِّفُ النَّاسَ بَذْلَ كُلِّ مَا يَكْسِبُونَ، وَأَنْ يَبْقُوا جَائِعِينَ عُرَاةً بَائِسِينَ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ، وَأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ أُوتُوا صِفَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَمُوهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ تَبْقَى عَلَى عُمُومِهَا، فَإِنَّ الْمَالَ مِنْ فَضْلِ اللهِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ، وَالْجَاهُ، وَالنَّاسُ مُطَالَبُونَ بِشُكْرِ ذَلِكَ، وَالْبُخْلُ عَلَى النَّاسِ بِهِ كُفْرٌ لَا شُكْرٌ.قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ النَّصِّ عَلَى أَنَّ الْبُخْلَ الْمَذْمُومَ هُنَا هُوَ الْبُخْلُ بِمَا يَجِبُ بَذْلُهُ مِمَّا يَتَفَضَّلُ اللهُ بِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ، هِيَ أَنَّ فِي الْعُمُومِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي النَّفْسِ مَا لَيْسَ لِلتَّخْصِيصِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مُتَأَخِّرَةٌ فِي النُّزُولِ، وَكَانَتْ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ إِذَا أُنْزِلَتْ مُقَرِّرَةً، فَإِذَا طَرَقَ سَمْعَ الْمُؤْمِنِ هَذَا الْقَوْلُ تَذَكَّرَ فَضْلَ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ فِيهِ حَقًّا لِلنَّاسِ، وَأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ يُذَكَّرُ بِهِ، سَوَاءٌ مِنْهُ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مُعَيَّنٌ، وَمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ وَلَا مُعَيَّنٍ، بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِهِ الَّذِي يَتْبَعُ عَاطِفَةَ الإيمان. وَإِنَّمَا نَفَى أَوَّلًا كَوْنَهُ خَيْرًا، ثُمَّ أَثْبَتَ كَوْنَهُ شَرًّا مَعَ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يُمَارَى فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ لِلْحَقِّ إِنَّمَا يَمْنَعُهُ لِأَنَّهُ يَحْسَبُ أَنَّ فِي مَنْعِهِ خَيْرًا لَهُ لِمَا فِي بَقَاءِ الْمَالِ فِي الْيَدِ مَثَلًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِالتَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ، وَدَفْعِ الْغَوَائِلِ، وَالْآفَاتِ، وَتَوَهُّمِ التَّمَكُّنِ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْدِيدَ كَانَ أَوْضَحَ، وَأَنْفَى لِلْإِيهَامِ. قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ هِدَايَةٍ، وَوَعْظٍ يُخَاطِبُ الْأَرْوَاحَ لِيَجْذِبَهَا إِلَى الْخَيْرِ بِالْعِبَارَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ تَأْثِيرًا لَا كَكُتُبِ الْفِقْهِ، وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْفُنُونِ الَّتِي تُتَحَرَّى فِيهَا التَّعْرِيفَاتُ الْجَامِعَةُ الْمَانِعَةُ، وَكِتَابٌ هَذَا شَأْنُهُ لَا يَجْرِي عَلَى السَّنَنِ الَّذِي لَا يَلِيقُ إِلَّا بِضُعَفَاءِ الْعُقُولِ الَّذِينَ فَسَدَتْ فِطَرُهُمْ بِالتَّعَالِيمِ الْفَاسِدَةِ، يَعْنِي تِلْكَ التَّعَالِيمَ الَّتِي تَشْغَلُ الْأَذْهَانَ بِعِبَارَتِهَا الضَّيِّقَةِ، وَأَسَالِيبِهَا الْمُعَقَّدَةِ، فَلَا يَنْفُذُ إِلَى الْقَلْبِ شَيْءٌ مِمَّا يَعْتَصِرُ مِنْهَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تُخْطِرُ فِي الْبَالِ بَذْلَ كُلِّ مَا فِي الْيَدِ، وَتَكَادُ تُوجِبُهُ- لَوْلَا الدَّلَائِلُ الْأُخْرَى- تُحْدِثُ فِي النَّفْسِ أَرِيحِيَّةً لِلْبَذْلِ تَدْفَعُهَا إِلَى بَذْلِ الْوَاجِبِ، وَزِيَادَةٍ عَلَيْهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ الْأَخِيرَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا يُبْخَلُ بِهِ هُوَ الْمَالُ، فَإِذَا جَرَيْنَا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ الْمُخْتَارِ وَهُوَ أنه يَعُمُّ الْمَالَ، وَالْعِلْمَ، وَالْجَاهَ، وَكُلَّ فَضْلٍ مِنَ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْفَعَ بِهِ النَّاسَ، يُمْكِنُنَا أَنْ نَجْعَلَهَا مِنْ قَبِيلِ الْمِثَالِ، وَنَقُولَ: إِنَّ التَّحْدِيدَ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ بَذْلُهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْجَاهِ، وَالْعِلْمِ مُتَعَذَّرٌ، إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ مَا يَجِبُ بَذْلُهُ فِي الْمَالِ مُتَيَسِّرٌ، وَبِهَذَا كَانَتِ الْآيَةُ شَامِلَةً لِمَا لَا يَتَأَتَّى تَفْصِيلُهُ، إِلَّا بِصُحُفٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ الْجَوَابُ أَظْهَرَ، وَالْإِيجَازُ أَبْلَغَ فِي الْإِعْجَازِ وَأَكْبَرَ.أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ الْعُمُومَ فِي قوله: {بِمَا آتَاهُمُ اللهُ} الْعُمُومُ فِي الْجَزَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْبُخْلِ فِي قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَلَمْ يَقُلْ: سَيُطَوَّقُونَ زَكَاتَهُمْ، أَوِ الْمَالَ الَّذِي مَنَعُوهُ، أَمَّا مَعْنَى التَّطْوِيقِ فَقَدْ يَكُونُ مِنَ الطَّاقَةِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّكْلِيفِ؛ أَيْ سَيُكَلَّفُونَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَجِدُونَ إِلَيْهِ سَبِيلًا كَقوله: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [68: 42].وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الطَّوْقِ، أَيْ سَيَجْعَلُ مَا بَخِلُوا بِهِ طَوْقًا فِي أَعْنَاقِهِمْ يُوبَقُونَ بِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ فَلَا يَجِدُونَ عَنْهُ مَصْرِفًا، وَسَيَأْتِي نَحْوُ ذَلِكَ فِي الْمَأْثُورِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْآيَةَ لَمْ تُبَيِّنْهُ وَلَا أَشَارَتْ إِلَى كَيْفِيَّتِهِ، فَإِنْ وَرَدَ فِي صَحِيحٍ مَا بَيَّنَهُ اتُّبِعَ الْوَارِدُ بِقَدْرِهِ لَا يُزَادُ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَوَجَبَ الإيمان بِهِ عِنْدَ مَنْ صَحَّ عِنْدَهُ عَلَى أنه مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ الَّذِي أُمِرْنَا بالإيمان بِهِ لِمَحْضِ الِاتِّبَاعِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ تَبِعَةَ أَمْوَالِهِمْ، يُقَالُ: طَوَّقَنِي الأمر أَيْ أَلْزَمَنِي إِيَّاهُ، فَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّ الْعِقَابَ عَلَى الْبُخْلِ لِزَامٌ لَا مَرَدَّ لَهُ.أَقُولُ: فَسَّرَ بَعْضُهُمُ التَّطْوِيقَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ: مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ شُجَاعٌ (ثُعْبَانٌ مَعْرُوفٌ) أَقْرَعُ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِلِهْزَمَتَيْهِ (أْي شِدْقَيْهِ) يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: إِنَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ فَيَلْزَمُهُ، أَوْ يُطَوِّقُهُ يَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ، أَنَا كَنْزُكَ. هُنَاكَ رِوَايَاتٌ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَغَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ طَوْقًا مِنَ النَّارِ فِي عُنُقِ مَنْ يَبْخَلُ، وَالتَّمْثِيلُ، وَالتَّخْيِيلُ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ، فَهُوَ نَحْوُ مَا يُرَى فِي النَّوْمِ، وَلَكِنَّ هُنَاكَ رِوَايَاتٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ لَيْسَ فِيهَا لَفْظُ التَّمْثِيلِ، وَلَا التَّخْيِيلِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَا يَقُولُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ عِنْدَهُ فِي الْبُخْلِ بِالْعِلْمِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بُخْلِ الْيَهُودِ بِإِظْهَارِ صِفَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْهُ أنه قَالَ: {قَوْلُهُ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَلَمْ تَسْمَعْ أنه قَالَ: يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ يَكْتُمُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْكِتْمَانِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أنه قَالَ فِي تَفْسِيرِهَا: سَيُكَلَّفُونَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا بَخِلُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِقَوْلِ مُجَاهِدٍ وَجْهٌ فِي اللُّغَةِ أَشَدُّ ظُهُورًا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ؛ أَيْ يُكَلَّفُونَ بَيَانَ مَا كَتَمُوا، فَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَطَوَّقْتُكَ الشَّيْءَ كَلَّفْتُكَهُ، وَطَوَّقَنِي اللهُ أَدَاءَ حَقِّكَ قَوَّانِي، وَذَكَرَ ذَلِكَ وَجْهًا فِي الْآيَةِ، وَفِي حَدِيثٍ بِمَعْنَاهَا قَبْلَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ قَوْلَهُمْ: تَطْوِيقُهُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى جَعْلِهِ طَوْقًا لَهُ: وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُطَوَّقَ حَمْلَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ مِنْ طَوْقِ التَّكْلِيفِ لَا مِنْ طَوْقِ التَّقْلِيدِ أَقُولُ: وَأَمَّا تَفْسِيرُ طَوَّقَنِي اللهُ أَدَاءَ حَقِّكَ بِقَوَّانِي، فَهُوَ مِنْ طَاقَةِ الْحَبْلِ، وَهِيَ إِحْدَى قُوَاهُ لَا مِنَ الطَّوْقِ، وَالْمُخْتَارُ مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا.وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ إِنَّ لَهُ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِمَّا يَتَوَارَثُهُ النَّاسُ، فَيُنْقَلُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ لَا يَسْتَقِرُّ فِي يَدٍ، وَلَا يُسَلَّمُ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِأَحَدٍ إِلَى أَنْ يَفْنَى جَمِيعُ الْوَارِثِينَ وَالْمُوَرِّثِينَ، وَيَبْقَى الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، أَوْ مَعْنَاهُ أنه هُوَ الَّذِي يَنْقُلُ كُلَّ مَا يُورَثُ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، فَقَدْ يَدَّخِرُ الْمَرْءُ مَالًا لِوَلَدِهِ فَيَجْعَلُهُ اللهُ بِسُنَنِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ مَتَاعًا لِغَيْرِهِمْ، كَأَنْ يَمُوتُوا قَبْلَ وَالِدِهِمْ أَوْ يُضَيِّعُوا مَا جَمَعَهُ لَهُمْ بِالْإِسْرَافِ فِيهِ، وَيَبْقُونَ فُقَرَاءَ كَأَنَّهُ يَقُولُ:مَا بَالُ هَؤُلَاءِ الْبَاخِلِينَ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ لَا يُفِيضُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى عِيَالِهِ مُغْتَرِّينَ بِتَصَرُّفِهِمُ الظَّاهِرِ فِيهِ، وَمِلْكِهِمْ الِانْتِفَاعَ بِهِ، ذَاهِلِينَ عَنْ مَصْدَرِهِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، وَعَنْ مَرْجِعِهِ الَّذِي يَعُودُ إِلَيْهِ، فَأن لاحَ فِي خَاطِرِ أَحَدٍ مِنْهُمْ أنه يَمُوتُ، وَيَفْنَى لَمْ يَخْطُرْ لَهُ إِلَّا أَنَّ لَهُ وَارِثًا يَرِثُ مَا يَتَمَتَّعُ هُوَ بِهِ كَأَوْلَادِهِ وَذِي الْقُرْبَى؛ فَكَأَنَّهُ يَبْقَى فِي يَدِهِ، فَلْيَعْلَمْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْوَارِثَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيمَا يَتْرُكُهُ الْهَالِكُونَ، هُوَ الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي أَعْطَى أُولَئِكَ الْهَالِكِينَ مَا كَانُوا بِهِ يَتَمَتَّعُونَ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ الْمَالَ وَغَيْرَهُ.الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْعِبَارَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَا يُعْطَاهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالٍ، وَجَاهٍ، وَقُوَّةٍ، وَعِلْمٍ فَإِنَّهُ عَرَضٌ زَائِلٌ، وَصَاحِبُهُ يَفْنَى وَيَزُولُ، وَلَا مَعْنَى لِاسْتِبْقَاءِ الْفَانِي مَا هُوَ فَانٍ مِثْلُهُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ، وَيَبْذُلَهُ فِي وُجُوهِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ؛ أَيْ فَهُوَ بِذَلِكَ يَكُونُ خَلِيفَةً لِلَّهِ فِي إِتْمَامِ حِكْمَتِهِ فِي أَرْضِهِ، وَمُحْسِنًا لِلتَّصَرُّفِ فِيمَا اسْتَخْلَفَهُ فِيهِ.{وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: {يَعْلَمُونَ} بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَالْبَاقُونَ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ؛ أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دَقَائِقِ عَمَلِكُمْ، وَلَا مِمَّا تَنْطَوِي عَلَيْهِ الصُّدُورُ مِنَ الْهَوَى فِيهِ وَالنِّيَّةِ فِي إِتْيَانِهِ، فَيُجْزَى كُلُّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى حَسَبِ تَأْثِيرِ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ. اهـ.
وفي الحديث المرفوع: أشدّ الناس حَسْرَةً يوم القيامة رجلٌ كَسب مالًا من غير حِلِّه فدخلَ به النارَ، وورَّثه مَن عَمِل فيه بطاعة اللهّ فَدَخل به الجنة. وقيل لعبد الله بن عُمر: تُوُفي زَيدُ بن حارثة وترك مائة ألف؛ قال: لكنّها لا تتركه.ودَخل الحسن على عبد الله بن الأهتم يَعوده في مَرضه فرآه يُصَعِّد بصرَه في صُندوق في بَيْته ويُصَوَبه، ثم التفت إلى الحسن، فقال: أبا سَعيد، ما تقول في مائة ألف في هذا الصُّندوق لم أؤَدً منها زكاة، ولم أصِل بها رحمًا؟ فقال له: ثَكِلَتْك أمك! ولمن كنت تجمعها؟ قال: لِرَوْعة الزمان، وجَفْوة السلطان، ومُكاثرة العشيرة. ثم مات، فشَهِد الحسنُ جِنازَته، فلما فرَغ من دَفنه ضرَب بيده القَبْر، ثم قال: انظرُوا إلى هذا، أتاه شيطانُه فحَذّره رَوْعة زمانه، وجفوة سُلطانه، ومُكاثرة عشيرته، عما استودعه اللّه واستعمره فيه، انظُروا إليه يَخْرُج منها مَذْمُومًا مَدْحُورًا. ثم قال: أيها الوارث، لا تُخْدَعَن كما خدِعَ صُوَيْحبك بالأمس، أتاك هذا المالُ حَلالًا فلا يكونُ عليك وَبالا، أتاك عَفْوًا صَفْوًا ممن كان له جَمُوعا مَنوعا، من باطلٍ جَمَعه، ومن حقٍّ مَنَعه، قطع فيه لُجَج البِحار، ومَفاوِز القِفار، لم تَكْدَح فيه بَيمين، ولم يَعْرِق لك فيه جَبِين، إن يوم القيامة يومُ حَسْرَة وندامة، وإن منِ أعظم الحَسَرَات غدًا أن تَرى مالَك في ميزان غيرك، فيالها حسرةً لا تُقال، وتوبةَ لا تُنال.لما حَضَرَتْ هِشامَ بن عبد الملك الوفاةُ، نَظر إلى أهله يَبْكون عليه، فقال: جاد لكم هشام بالدًّنيا وجُدْتم له بالبُكاء، وترك لكم ما جَمع، وتركْتُمْ له ما عَمل، ما أعظمَ مُنْقَلب هشام إن لم يَغْفر الله له!. اهـ.
|